top of page

تَعرّفوا على مخاوِفِكم ومخاوِفِ أطفالكم

كيف يتحوَّل الخوفُ إِلى حالةٍ منَ القلقِ والتوتُّرِ المزمنِ (הפרעת חרדה)؟

من الملاحظ في الآونه الأخيرة أن توجّه حالات الخوف والقلق للعيادات النفسيّة اَخذٌ في الإزدياد وخاصة لدى الأطفال، مما دفعني لكتابة هذه الأسطر، وقبل أَنْ نخوض في تفاصيل هذه الحالة من المهم أن نعرّف أولاً معنى "القلق" هنا، فالقلق ليس بالأرق (أي صعوبة في النوم ليلاً)، لكنّا نقصد بذلك الحالة من التوتر الدائم والشعور بالخوف وعدم الإطمئنان دون وجود سبب مباشر لذلك.

من المهم أن نميّز بين الخوف الطبيعي لدى الطفل لسبب معروف والذي يظهرلدى أطفال كثيرين تصل نسبتهم الى 70% وبين الحالة المرضيّة من القلق والتوترالمستمر والتي يعاني منها فقط القليل منهم. إذ أَنَّ الخوف عند الأطفال يزول تدريجيًّا حتَّى سن 11 سنة ولكن لدى نسبة قليلة منهم تتحول المخاوف إِلى حالة من الاضطراب النفسيّ والشعور بعدم الأمان وهذا ما نتحدَّث عنهُ هنا.

تصيب هذه الحالة الكبارَ والصغار على السواء بعكس ما يعتقد أغلبيَّة الناس، ولكن هناك اختلاف كبير بين الحالتين أوّلها أنَّ تشخيص الحالة لدى الأطفال أصعب منه عند الكبار والسبب في ذلك يكمن في أَنَّ الأطفال بحكم كونهم أطفالاً، نرى أن مزاجهم يتغيّرلأبسط الأسباب بسرعة كبيرة من خوف الى فرح أو حزنٍ أو غضب، لذا نحن لا نأخذ حالتهم على محمل الجدّ، خاصة أن احتوائنا ودعمنا لهم كثيراً ما يهدأ خاطرهم ويبعد عنهم الخوف فنعتقد أنَّ ذلك أمرعابر ولا حاجة لأكثر من ذلك. ولكن عندما نرى أن مخاوف الطفل تتكرَّر وتمتدّ إلى مجالاتٍ ومواقفَ مختلفة من حياة الطفل علينا أنْ نقفَ لنتسائل هل نتحدّث هنا عن حالة مرضية من الاضطراب النفسي.

أما أعراض القلق عند الأطفال فتختلف عنها عند الكبار، إذ ينعكس الخوف والقلق لدى الطفل في سلوكيات تراجعية منها: التبول الليلي، صعوبة في الأنفصال عن أهله أو في البقاء لوحده ولو للحظات قصيرة، المماطلة في الذهاب للفراش وتأجيل ساعات النوم بحجة أنَّه ما زال يريد أن يلعب، الصحو في ساعات متأخرة من الليل وطلب النوم بجانب والديه أو عالأقل في غرفتهم، تراجع تحصيلي وتغيبه عن المدرسة بحجة الم في رأسه أو بطنه، الإكثار من الحديث عن الموت أو المرض واعتقاده بأنه سيموت، أو أن العلم سينتهي، من جهة أخرى من الممكن أن يظهرالطفل تصرف عدواني أو عنيف ضدَّ أخوتِهِ أو أولاد آخرين، ومما لا شك فيه أن هذه الحالة لا بد أن تنعكس في لعبه وكذلك في انخفاض تركيزه وبالتالي في تحصيله المدرسي في جيلٍ لاحقٍ... والخ. يختلف ظهور هذه الأعراض من طفل لاخر وليس بالضرورة أن تظهر جميعها لدى نفس الشخص، بل يمكن ظهور جزء منها فقط.

أمّا لدى الكبار، فتشمل حالة التوتر والقلق (הפרעת חרדה) أنواعا وأشكالاً أخرى، أكثر ما نصادفه في العيادات هو حالة الهلع أو الرعب الشديد الذي يظهر فجأةً على شكل نوبات (התקפי חרדה, Panic Attack) ويتمثل في ارتفاع نبضات القلب، أحياناَ صعوبة في التنفس، وجع رأس أو بطن فجائي يرافقه أحياناً غثيان وتصبب العرق، ويشعر الشخص حقيقةً بالخوف وفقدان السيطرة على جسده ويتوقع حدوث أمر سيء، كأن مصيبة سوف تقع لا محال، دون أي سبب ظاهر للعيان.

تتميّز أحيانًا هذه الحالة الخاصة من الإضطراب عند الشخص البالغ بوجود شعور بالقلق العام والدائم لدرجة أن يصبح القلق والتوتر جزءًا ملازمًا لشخصيَّتِه، فنراه مثلاً يحسب ألف حساب لكل أمر أو فعل مما عليه القيام به مهما كان كبيرًا أوصغيرًا. أحياناً يسيطرعلى تفكيره موضوع خاص طول الوقت دون القدرة على التوقّف عن التفكير المستمرّ فيه حتّى لو لمْ يكنْ أمرًا ذا أهمّيّة، أحيانًا تنعكس هذه الحالة بظهور خوف شديد لدى الشخص من أمر ما مثل المصعد الكهربائي أو الخوف من الأمتحانات، الخوف من الحيوانات الأليفة، أوالخوف من الأماكن المغلقة أو العالية، أو الخوف من الجمهور أوالتجمهر... والخ.

يمكن أن تحدث هذه النوبات مرة أو أكثر في اليوم أو في الأسبوع ويمكن لها أن تستمرّ من 10-20 دقيقة تقريبًا. من بعد حدوثها في المرة الثانية يظل التفكير والقلق مستمر طول الأيام خوفًا من حدوثها مرة أخرى. عدم معالجتها يمكن أن يؤدّي لاحتدادها وكثيراً ما يتحول الى خوف من المرض أو من الموت. كما أن حدوثها المتكرر يجعل الشخص يتجنب النشاطات الاجتماعية والرحلات لدرجة أن يحبس نفسه داخل البيت، وإذا أضطر للخروج من بيته، يصرعلى التواجد مع أحد أفراد عائلته تحسّبًا لحدوثها المفاجئ.

أحد أعراض القلق النفسي (הפרעת חרדה) هو إضطراب في النوم، بغض النظر عن الجيل. فعندما تتفاقم المخاوف والشعور بعدم الإطمئنان والاستقرار لدى الفرد، يزداد افراز الجهاز العصبي لمادة الأدرنالين في جسمه ويتشوش عمل الجهاز الباراسمبتيتي المسؤول بشكل اوتوماتيكي عن عملية الإسترخاء، فيظل الشخص في حالة توتر دائم حتى عند دخوله الفراش فلا يستطيع النوم. وهذا ينطبق على الجميع كبارًا وصغارًا، فتظهر حالة القلق عادةً لدى الأطفال على شكل خوف في البداية من أمر ما كما ذكرت أعلاه، أحياناً تبدو لنا مخاوف الأطفال أو حتى الكبار بسيطة وسطحية فلا نعيرها أهمية، إذ نرى فيها أمراَ تافهًا لا يستحقّ الاهتمام، إِلّا بعد أنْ يشتدّ ويستحوذ الخوف على الطفل فنلاحظ ذلك في سلوكياته، فاذا كانت حالته خفيفة، من الممكن أن تزول إذا قدمنا له الدعم والحماية من البداية. أما اذا اشتدت عليه الحالة فمن غير الممكن معالجتها دون تدخل شخص مهني. وقد حدثتني أم على سبيل المثال أن ابنتها ترفض المشاركه في الصف خشية أن تخطئ في اجابتها فيضحك عليها طلاب صفها. ولذا فهي تطلب نقلها من الصف أو حتى من المدرسة أساساً.

الحق يقال إنَّ البعض منا في الواقع يغض النظر عن أمر كهذا، ظناً منه أن الامرسيزول مع الوقت، أما البعض الاخر فيتماشا مع رغبة الولد دون معاينة جدية للموضوع ويلبي طلبه في الانتقال لإطار اخر فتنتقل صعوبات الطفل النفسية والإجتماعية معه وكلما تكررت الأحداث معه كلما تعقدّت مشكلته واشتدت حالته سوءاً.

ما علينا أن نعيه هو أن الطفل مثله مثل الشخص البالغ، لديه حواس تنبهه من الخطر فيصرخ إذا سمع فجأةً ضجيجا في الشارع أو في البيت مثلاَ، وهو يخاف إذا شهد جدالاً عنيفاً بين والديه، أو قتالًا بين والده وشخص اخر مثلاً وكل ذلك يبث للطفل شعورًا بعدم الأمان بغض النظر عن عمره. إذ يؤكد لنا الأطباء على أن الطفل يتأثر بكل ذلك وهو ما زال جنينًا في بطن أمه، فكيف لنا أن نفكر إذاً بانه ما دام صغيراً فهو لا يفهم أو لا يتأثر، أما الحقيقة فهي عكس ذلك تمامًا وكل ما هنالك أن الطفل لا يستطيع أن يعبر عن مخاوفه كما يجب، فنرى نحن ذلك من خلال سلوكه مباشرة.

أن الحقيقة العلمية والتي دعمتها تجربتي الطويلة في تشخيص وعلاج أطفال كثيرين وعائلاتهم خلال أكثر من 20 سنة هي أن لأمورنعتبرها أحياناً صغيرة ابعاد جدية على مستقبل الطفل.

ما نودّ الإشارة اليه هنا هو لفت النظر لمثل تلك الأمور وعدم اعتبارها أموراً تافهة أو صغيرة لأنها غالبًا ما تكون مؤشراً لوجود مشكلة أعمق من مجرد العارض الذي نراه وأحياناً يكون ذلك بداية لتطور حالة مزمنة من القلق (הפרעת חרדה) بحيث تصبح جزءاً أساسياً من شخصية الفرد، مثلاً في الحالة الموصوفة أعلاه، خوف الطفلة النابع كما يبدو من عدم الثقة بالنفس يمكن أن يتحول في المستقبل الى الحالة المعروفة بفوبيا الجمهور أو التجمهر(פחד מהתקהלות). في الحقيقة أن للأحداث السلبية في حياة الطفل المبكرة ابعاد سلبية كثيرة على حياته وحياة من حوله، لدرجة أنها أحياناً تقود الطفل لحالة من اليأس والأفكار الإنتحارية خاصة في جيل المراهقة، بينما تتطلب معالجتها جهداً كبيرًا من الجميع.

وصل إِليّ يوماً للعلاج مهندس في إحدى الشركات الكبرى لتصنيع المواد الغذائية وتلخصت شكواه بإحساس بالخوف الشديد بعد أن طلب منه مديره في العمل الظهور أمام الجمهور والتحدث في مؤتمرات الشركة، وحدّثني المهندس بأنه يشعر باَلم في بطنه وأحيانا يصاب بالإسهال ويتصبب جسمه بالعرق كلّما طرح الموضوع عليه، وكان هو يفضل رفض الفكرة من اساسها، مما أعاق تقدمه في العمل وجعل المسؤلين يماطلون في ترفيعه.

ومثلها حالات كثيرة لا تعدَ ولا تحصى أكدت لي أهمية التعرف على مخاوفنا ومخاوف أطفالنا وعدم التوّهم أنَّ كلَّ شيءٍ يزول مع الكبر، لأنَّ كلاهما، الطفل كما البالغ يحتاجان إِلى علاجٍ منذ البداية قبل أنْ يتفاقم الأمر ويتحول إِلى حالةٍ مزمنة. لذلك في حالة انتباهنا لظهور الخوف المصحوب بالقلق والتوتَر الدائم لدى أحد أفراد العائلة لمدة تزيد عن أسبوعين، علينا توجيهه للاستشارة النفسية على الأقل لجلسة أو اثنتين لتشخيص حالته، لفهم الظاهرة ومعرفة كيفية التعامل معها، ممّا يمنع تفاقمها ويوفَر علينا العلاج المطول واللجوء إِلى المسكِّناتِ.

بقلم : دنيا برودي - اخصائية نفسية معالجة ومستشارة للقضايا التربوية.


You Might Also Like:
bottom of page